سورة النحل - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النحل)


        


قلت: {يوم}: منصوب باذكر، أو بغفور رحيم.
يقول الحقّ جلّ جلاله: واذكر {يوم تأتي كلُّ نفس تُجادِلُ عن نفسها}؛ عن ذاتها، وتسعى في خلاصها، لا يهمها شأن غيرها؛ {يَوْمَ يَفِرُّ المرء مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهُ وَبَنِيهِ} [عَبَسَ: 34-36]، {وتُوفَّى كلُّ نفس} جزاء {ما عملت} على التمام، {وهم لا يُظلمون}: لا يُنقصون من أجورهم مثقال ذرة.
الإشارة: النفس التي تجادل عن نفسها، وتوفى ما عَمِلَتْ من خير أو شر، إنما هي النفس الأمارة أو اللوامة. وأما النفس المطمئنة بالله، الفانية في شهود ذات الله، لا ترى وجودًا مع الله؛ فلا يتوجه عليها عتاب، ولا يترتب عليه حساب؛ إذ لم يبق لها فعل تُحاسب عليه. وعلى تقدير وجوده فقد حاسبت قبل أن تحاسَب، بل هي في عداد السبعين ألفًا، الذين يدخلون الجنة بغير حساب، وهم المتوكلون. أو تقول: هي في عداد من يلقى الله بالله، فليس لها شيء سوى الله، فحجته، يوم تجادل النفوس، هو الله. كما قال الشاعر:
وجهك المحمود حُجتنا *** يوم يأتي الناسُ بالحُجج
وبالله التوفيق.


قلت: {قرية}: بدل من: {مثلاً}.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {وضرب اللهُ مثلاً}، ثم فسره بقوله: {قريةً}: مكة، وقيل: غيرها. {كانت آمنة} من الغارات، لا تُهَاجُ، {مطمئنة} لا تحتاج إلى الانتقال عند الضيق أو الخوف، {يأتيها رزقها}: أقواتها {رغدًا}: واسعًا {من كل مكان} من نواحيها، {فكفرتُ بأنعُم الله}؛ بطرت بها، أو بنبي الله، سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، {فأذاقها اللهُ لباسَ الجوع والخوف}، استعار الذوق لإدراك أثر الضرر، واللباس لِمَا غشيهم واشتمل عليهم من الجوع والخوف، أما الإذاقة فقد كثر استعمالها في البلايا حتى صارت كالحقيقة، وأما اللباس فقد يستعيرونه لما يشتمل على الشيء ويستره؛ يقول الشاعر:
غَمْرُ الرِّدَاءِ إِذَا تَبَسَّمَ ضَاحِكًا *** غَلِقَتْ لِضحكَتِهِ رِقَابُ المَالِ
فقد استعار الرداء للمعروف، فإنه يصون عِرْضَ صاحبه صون الرداء؛ لما يلقى عليه، والمعنى: أنهم لما كفروا النعم أنزل الله بهم النقم، فأحاط بهم الخوف والجوع إحاطة الثوب بمن يستتر به، فإن كانت مكة، فالخوف من سرايا النبي صلى الله عليه وسلم وغاراته عليهم، وإن كان غيرها، فمن كل عدو، وذلك بسبب ما كانوا يصنعون من الكفر والتكذيب.
{ولقد جاءهم رسولٌ منهم}، يعني: محمدًا صلى الله عليه وسلم، والضمير لأهل مكة. عاد إلى ذكرهم بعد ذكر مثَلِهم. {فكذَّبوه فأخذهم العذاب}: الجوع والقحط، ووقعة بدر، {وهم ظالمون}؛ ملتبسون بالظلم، غير تائبين منه. والله تعالى أعلم.
الإشارة: ضرب الله مثلاً؛ قلبًا كان آمنًا مطمئنًا بالله، تأتيه أرزاق العلوم والمواهب من كل مكان، فكفر نعمة الشيخ، وخرج من يده قبل كماله، فأذاقه الله لباس الفقر بعد الغنى بالله، والخوف من الخلق، وفوات الرزق، بعد اليقين؛ بسبب ما صنع من سوء الأدب وإنكار الواسطة، ولو خرج إلى من هو أعلى منه؛ لأن من بان فضله عليك وجبت خدمته عليك، ومن رزق من باب لزمه. وهذا أمر مُجرب عند أهل الذوق بالعيان، وليس الخبر كالعيان، هذا إن كان أهلاً للتربية، مأذونًا له فيها، جامعًا بين الحقيقة والشريعة، وإلا انتقل عنه إلى من هو أهل لها، وبالله التوفيق.


قلت: {الكذب}: مفعول بتقولوا، و{هذا حلال وهذا حرام}: بدل منه، أي: لا تقولوا الكذب، وهو قولكم: {هذا حلال وهذا حرام}، و{ما} في قوله: {لما تصف}؛ ويجوز أن ينتصب الكذب ب {تصف}، ويكون {ما} مصدرية. ويكون قوله: {هذا حلال وهذا حرام} معمولاً لتقولوا، أي: لا تقولوا: هذا كذا وهذا كذا؛ لأجل وصف ألسنتكم الكذب.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {فكلوا مما رزقكم الله حلالاً طيبًا}، أمرهم بأكل ما أحل لهم، وشُكر ما أنعم عليهم، بعد ما زجرهم عن الكفر، وهددهم عليه، بما ذكر من التمثيل والعذاب الذي حل بهم؛ صدًا لهم عن صنيع الجاهلية ومذاهبها الفاسدة. قاله البيضاوي: {واشكروا نعمتَ الله}؛ لتدوم لكم {إن كنتم إياه تعبدون} فلا تنسبوا نعمه إلى غيره، كشفاعة الأصنام وغيرها. {إنما حرّم عليكم الميتةَ والدمَ ولحم الخنزيرِ وما أهلّ لغير الله به فمن اضطر غير باغٍ ولا عادٍ فإن الله غفور رحيم}، تقدم تفسيرها في البقرة والمائدة. قال البيضاوي: أمرهم بتناول ما أحل لهم، وعدد عليهم محرماته، ليعلم أن ما عداها حل لهم. ثم أكد ذلك بالنهي عن التحريم والتحليل بأهوائهم بقوله: {ولا تقولوا لما تَصفُ ألسنتُكم الكذبَ هذا حلالٌ وهذا حرام} لما لم يحله الله ولم يحرمه، كما قالوا: {مَا فِي بُطُونِ هذه الأنعام خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ على أَزْوَاجِنَا...} [الأنعام: 139] الآية. اهـ. تقولون ذلك؛ {لتفتروا على الله الكذب} بنسبة ذلك إليه. {إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون} أبدًا؛ لأنهم تعجلوا فلاح الدنيا بتحصيل أهوائهم، فحُرموا فلاح الآخرة، ولذلك قال: {متاع قليل} أي: لهم تمتع في الدنيا قليل، يفنى ويزول. {ولهم عذاب أليم} في الآخرة.
{وعلى الذين هادوا حرّمنا ما قصَصنَا عليك من قبل} في سورة الأنعام بقوله {وَعَلَى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} [الأنعام: 146] الآية، {وما ظلمناهم} بالتحريم، {ولكن كانوا أنفسهم يظلمون}؛ حيث فعلوا ما عوقبوا به عليه. ذكر الحق تعالى ما حرم على المسلمين، وما حرم على اليهود؛ ليعلم أن تحريم ما عدا ذلك افتراء على الله. والله تعالى أعلم.
الإشارة: يقول الحق- جلّ جلاله-، لمن بقي على العهد؛ من شكر النعم؛ بالإقرار بفضل الواسطة: {فكلوا مما رزقكم الله} من قوت اليقين وفواكه العلوم، {واشكروا نعمة الله} إن كنتم تخصونه بالعبادة وإفراد الوجهة. إنما حرَّم عليكم ما يشغلكم عنه، كجيفة الدنيا والتهارج عليها، ونجاسة الغفلة، وما يورث القساوة والبلادة، وقلة الغيرة على الحق، وما قبض من غير يد الله، أو ما قصد به غير وجه الله، إلا وقت الضرورة فإنها تبيح المحذور. والله تعالى أعلم.

8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15